صبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)
عائض بن عبد الله القرنـــي
الحمد لله ربِ العالمين.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ
وَالنُّورَ ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي
الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ .
الحمد للهِ حمدا حمدا، والشكرُ لله شكرا
شكرا،
الحمد لله عبوديةً واعترافا، الحمد لله استخزاءً وذلة.
والصلاةُ والسلام على معلمِ البشرية،
وهادي الإنسانية،
ومزعزعِ كيان الوثنية، صلى الله وسلم على محمدٍ ما اتصل مرءأ
بنظر،
وما اتصلت أذنُ بخبر، وما هتفَ ورقُ على شجر، وما نزل مطر،
وما تلعلعَ الظلُ
على الشجر، وعلى آله وصحبِه وسلمَ تسليما كثيرا.
أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن
محمدا عبدُه ورسولُه،
أشهدُ أن لا إله إلا الله على رغمِ أنفِ من تكبر وكفر،
وعلى
رغمِ من جحد واستكبر، وعلى رغمِ من بعدَ وتنكر.
أيها المسلمون:
بشرى لنا معشرُ الإسلامِ
إن لنا ....... من العنايةِ ركنا غير منهدمِ
لما دعا اللهُ داعينا
لطاعتِه ............ بأكرمِ الرسلِ كنا أكرم الأممِ
أخوك عيسى دعا ميتا فقامَ
له .........وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
مولاي صلي وسلم ما أردتَ
على ... نزيلِ عرشكَ خير الرسل كلهمِ
لا يزالُ الحديثُ عن جانبٍ من جوانبِ
عظمتِه (صلى اللهُ عليه وسلم)،
وعظمتُه تبهرُ العقول، وتخلبُ الألباب، وتحيرُ
الأفكار،
إنهُ عظيمُ لأنَه عظيم، وإنه صادقُ لأنَه صادق، بنى رسالةً أرسى من
الجبال،
وأسسَ مبادئ أعمقُ من التاريخ، وبنى جدارا لا يخترقَه الصوت،
إنه (صلى
اللهُ عليه وسلم) حيثما توجهتَ في عظمتِه وجدتَ عظمتَه،
فهيا بنا إلى جانبِ الصبرِ
في حياتِه (صلى اللهُ عليه وسلم).
ذكرَ الصبرُ في القرآنِ في أكثرِ من
تسعينَ موضعا، مرةً يمدحُ اللهُ الصابرين،
ومرةً يخبرُ اللهُ بثوابِ الصابرين،
ومرةً يذكرُ اللهُ عز وجل نتائجَ الصابرين،
يقولُ لرسولِه (صلى اللهُ عليه وسلم): فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا رأيتَ الباطلَ يتحدى،
وإذا رأيت الطغيانَ يتعدى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قل مالُكَ وكثرَ فقرُكَ
وعوزُك وتجمعتَ همومُك وغمومُك:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قتلَ أصحابُك وقل أصحابُك
وتفرقَ أنصارُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا كثُرَ عليك الأعداء،
وتكالبَ عليك البُغضاء وتجمعت عليكَ الجاهليةُ الشنعاء:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا وضعوا في طريقِك العقبات،
وصنفوا لك المشكلات،
وتهددوكَ بالسيئاتِ وأقبحَ الفعلات: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا مات أبناؤكَ وبناتُك
وتفرق أقرباءُك وأحباؤكَ:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فكانَ مثالا للصبرِ عليه السلام، سكنَ
في مكةَ فعاداهُ الأقرباءُ والأحباء،
ونبذَه الأعمامُ والعمومةَ، وقاتلَه القريبُ
قبل البعيد فكانَ من أصبرِ الناس،
أفتقرَ وأشتكى، ووضع الحجرَ على بطنِه من الجوع
وظمأَ فكان من أصبرِ الناس.
مات أبنَه بين يديه وعمرُه سنتان، فكان
ينظرُ إلى أبنِه الحبيبِ القريبِ من القلبِ،
ودموعُ المصطفى (صلى الله عليه وسلام)
الحارةُ تتساقطُ كالجُمانِ أو كالدرِ
على خدِ أبنِه وهو من أصبرُ الناسِ يقول: تدمع العين، ويحزنُ القلب،
ولا نقولُ إلا ما يرضي ربَنا، وإنا
بفراقِك يا إبراهيمُ لمحزونون.
مات خديجةُ زوجتُه وامرأتُه العاقلةُ
الرشيدة، العاقلةُ الحازمةُ المرباةُ في بيتِ النبوة،
التي كانت تؤيدُه وتنصُره،
ماتت وقت الأزمات،
ماتت في العصرِ المكي يوم تألبت عليه الجاهليةُ،
وقد كانت رضي
اللهُ عنها ساعدَه الأيمن.
يشتكي إليه من كثرةِ الأعداء، ومن
الخوفِ على نفسِه فتقول:
كلا واللهِ لا يخزيكَ اللهُ
أبدا، إنك لتصلُ الرحم، وتحملُ الكلَ،
وتعينُ الملهوفَ، وتطعمُ الضيفَ، كلا واللهِ
لا يخزيكَ اللهُ أبدا.
فتموتُ في عام الحزنِ فيكونُ من أصبرِ الناسِ لأن
اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تجمع عليه كفارُ مكةَ، أقاربُه
وأعمامُه، نصبوا له كمينا ليقتلوه ويغتالوه،
فدخلَ دارَه، وأتى خمسونَ من شبابِ
قريش، كلُ شابٍ معَه سيفُ يقطرُ
دما وحقدا وحسدا وموتا، فلما طوقوا دارَه كان من
أصبرِ الناس،
خرج من الدارِ وهم في نعاسٍ وسباتٍ فحثا على رؤوسِهم الترابَ لأن
اللهَ يقولُ له:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ولما حثا الترابَ على رؤوسِهم كانوا
نياما قد تساقطت
سيوفُهم من أياديهم، والرسول عليه الصلاة والسلامُ يتلو عليهم:
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ
سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.
خرج إلى غارِ ثورٍ ليختفي من
الأعداء، فتولبَ عليه الأعداءُ
وتجمعوا على سطحِ الغار، ونزلوا في ميمنةِ الغار،
وأحاطوا
بميسرةِ الغار، وطوقوا الغار وأرادوا أن يدخلُوه فسخرَ اللهُ
عنكبوتا
وحماما فعشعشت تلكَ، وباضت تلك:
ظنوا الحمامَ وظنوا
العنكبوتَ على .... خيرِ البريةِ لم تنسج ولم تحمِ
عنايةُ الله أغنت عن
مضاعفةٍ ........ من الدروع وعن عالي من الأُطمِ
فما دخلوا الغار، يقولُ أبو بكر رضي
الله عنه وهو في
الغارِ مع المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم): يا رسولَ الله واللهِ لو نظرَ
أحدُهم إلى موطني قدمِه لرآنا.
فيتبسمُ عليه الصلاةُ والسلام، يتبسمُ
الزعيمُ العالميُ، والقائدُ الرباني،
الواثقُ بنصرِ اللهِ ويقول: يا أبا بكر، ما ظنُك باثنين اللهُ ثالثُهما؟ ويقول:
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
وهي دستورُ للحياة، إذا جعت
وظمئت فقل: لا تَحْزَنْ
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
إذا مات أبناؤكَ وبناتُكَ فقل: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ
مَعَنَا.
وإذا أرصدت في طريقِك
الكوارثَ والمشكلات ِفقال:
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
فكان عليه الصلاةُ والسلامُ من أصبرِ
الناس، ويخرجُ من الغار،
والكفارُ لا يدرونَ أنه كانَ في الغار، فينسلُ إلى
المدينةِ وليتَهم
تركوه، بل يعلنونَ عن جائزةٍ عالميةٍ لمن وجدَه، جائزةَ العارِ
والدمارِ وقلةِ الحياءِ والمروءة، مئةُ ناقةٍ حمراء لمن جاء به حيا
أو ميتا،
فيلاحقُه سراقةُ أبن مالكٍ بالرمحِ والسيف، فيراهُ (صلى اللهُ عليه وسلم)
وهو يمشي
على الصحراءِ جائعا ظمئنا قد فارقَ زوجتَه فارق بناتِه، فارق بيتَه،
فارق جيرانَه
وأعمامَه وعمومتَه، ليس له حرسُ ولا جنود، لا رعايةُ ولا موكب،
وسراقةُ يلحقه
بالسيف.
فيقولُ أبو بكرٍ: يا رسولَ الله والله لقد اقتربَ منا.
فيتبسمُ عليه الصلاة والسلام مرةً
ثانيةً لأنَه يعلم عليه الصلاةُ والسلامُ أن
رسالتَه سوف تبقى ويموتُ الكفار، وسوف
تبقى دعوتُه حيةً ويموتُ المجرمون،
وسوف تنتصرُ مبادئُه وتنهزمُ الجاهليةُ. فيقول:
يا أبا بكرٍ ما ظنكَ باثنين اللهُ ثالثَهما.
ويقتربُ سراقةُ ويدعُ عليه المصطفى (صلى
اللهُ عليه وسلم) فتسيخُ أقدامُ فرسِه ويسقط،
فيقومُ ويركب ويقترب فيدعُ عليه
المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) فيسقط، ثم يقولُ:
يا رسولَ الله أعطني الأمان، الآن هو يطلبُ الأمان وأن يحقنَ
المصطفى دمَه،
وهو بسيفٍ والمصطفى بلا سيف، فرَ من الموتِ وفي الموتِ وقع. فيعطيهِ
المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) أمانَه.
يا حافظَ الآمالِ أنت
...... حفظتني ونصرتني
وعدى الظلومُ علي .......
كي يجتاحني فنصرتَني
فأنقادَ لي متخشعا
..........لما رآك منعتني
يصلُ (صلى اللهُ عليه وسلم) إلى
المدينة، ويشاركُ في معركةِ بدر،
فيجوعُ حتى يجعلَ الحجرَ على بطنِه:
يا أهل الموائدَ الشهية، يا
أهل التخمِ والمرطبات، والمشهياتِ والملابس،
رسولُ الإنسانيةَ، وأستاذُ البشرية
يجوع حتى ما يجدُ دقل التمرِ وحشف التمر:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تموتُ بناتُه الثلاث هذه تلو الأخرى، تموتُ
الأولى
فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
وبعد أيامٍ تموتُ الثانية فيغسلُها
ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ
من المقبرَةِ وهو يتبسم:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تموتُ الثالثةَ فيغسلُها ويكفنُها
ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو
يتبسم: فَاصْبِرْ
صَبْراً جَمِيلاً.
يموتُ أبنُه إبراهيم، فيغسلُه ويكفنُه
ويدفنُه ويعودُ من المقبرةِ وهو
يتبسم: فَاصْبِرْ
صَبْراً جَمِيلاً.
عجبا من قلبِك الفذ الكبير. لأن اللهَ يقول لَه: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يشاركُ في معركةِ أحد، فيهزَمُ أصحابُه،
ويقتلُ من قرابتِه
ومن سادةِ أصحابِه، ومن خيارِ مقربيه سبعونَ رجلا أولُهم
حمزة
رضي اللهُ عنه، عمُه سيفُه الذي بيمينِه، أسدُ اللهِ في أرضِه،
سيدُ الشهداءِ في
الجنة، ثم يقفُ (صلى اللهُ عليه وسلم) على القتلى،
وينظرُ إلى حمزةَ وهو مقتولُ
مقطعُ، وينظرُ إلى سعدَ أبنُ الربيعِ
وهو ممزق، وأنسُ ابنُ النظر وغيرهم من أولئك
النفر فتدمعُ عيناه،
وتسيلُ دموعُه الحارة على لحيتِه الشريفة، ولكن يتبسم لأن
الله قال له:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ويعودُ عليه الصلاةُ والسلام فيرسلُ
قادتَه إلى مؤتةَ في أرض
الأردنَ ليقاتلواُ الروم، فيقتلُ الثلاثةُ القوادُ في
ساعةٍ واحدة، زيدُ
أبنُ حارثة، وجعفرُ الطيار ابن عمه، وعبدُ الله أبن رواحه،
ويراهم
وينظرُ إليهم من مسافةِ مئاتِ الأميال، ويرى أسرتَهم من ذهب
تدخلُ الجنةَ،
فيتبسمَ وهو يبكي لأن اللهَ قال له: فَاصْبِرْ صَبْراً
جَمِيلاً.
يتجمعُ عليه المنافقونَ، والكفارَ،
والمشركون، واليهودَ، والنصارى،
وإسرائيل ومن وراءَ إسرائيلَ فيحيطون بالمدينة،
فيحفرُ (صلى الله عليه وسلم)
الخندق، ينزلُ على الخندقِ ويرفعُ الثوب، وعلى بطنِه
حجرانِ من الجوع،
فيضربُ الصخرةَ بالمعولِ فيبرقُ شذا النارِ في الهواء فيقولُ:
هذه كنوزُ كسرى وقيصر،
واللهِ لقد رأيتُ قصورَهما، وإن اللهَ سوف يفتحُها علي.
فيضحكُ المنافقونَ ويقولون: ما يجدُ أحدُنا حفنةً من التمر،
ويبشرُنا بقصور كسرى وقيصر.
فيتبسم لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
وبعد خمسٍ وعشرين سنةً تذهبُ جيوشُه
وكتائبُه من المدينةِ فتفتح
أرض كسرى وقيصر، وما وراء