الشهادة بين الواقع والواجب
-----------------------
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
-----------------------
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1 - الخلاف بين الناس وتعدي بعضهم على بعض أمر مشاهد ومتكرر 2 - الشهادة هي سبيل
اقرار الحقوق 3 - وجوب أداء الشهادة والتحذير من كتمانها 4 - التحذير من شهادة
الزور وذكر أثرها البالغ على المسلمين 5 - الشهادات التي لايجوز تحملها
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، وتحرزوا من حصائد ألستنكم التى هي سبب لأن يكب صاحبها في النار
على وجهه.
إن شريعة الإسلام جاءت بحفظ الحقوق والعدل بين الناس؛ فالقوي فيها ضعيف حتى يؤخذ
الحق منه، والضعيف فيها قوي حتى يؤخذ الحق له.
عباد الله!
وبما أن الناس لا يستغني بعضهم عن بعض في هذه الحياة ؛ فمنذ وجد الإنسان على ظهر
البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فإنه يحصل بينهم مشاحنات، ويحصل من
بعضهم على بعض تطاولات واعتداءات على الأنفس والأعراض والثمرات؛ نتيجة لتجمعاتهم،
ولما تحويه الأنفس من غرائز الطمع والجنس وغيرها ؛ مما يجعل بعضهم يعتدي على بعض،
ويحاول الاستيلاء على الممتلكات من غير حق، وليس هذا بدعاً في هذا الزمن وإن كان
في هذا الزمن قد زاد على غيره؛ فقد وقع شيء من هذا في عهد صفوة الخلق محمد بن عبد
الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي عهد الصحابة الأطهار الخلفاء الراشدين، ولذلك
قال الرسول: ((لو يعطى الناس بدعواهم؛ لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة
على المدعى واليمين على من أنكر))(1).
عباد الله!
ومن حكمة الله أن شرع طرقاً لإثبات الحدود والحقوق عند تنازع الناس فيها، ومن هذه
الطرق الشهادة التي يستدل بها القاضي على الحق، ويحكم بموجبها، بعد أخذ الحيطة،
للتأكد من عدالة الشهود.
والحاجة ماسة إلى الشهادة؛ إذ أنها سبب في إثبات الحقوق وحفظ الأرواح والأموال
والأنساب والعقول؛ فهي طريق لإنصاف المظلومين، وردع الظالمين، وحسم النزاع بين العالمين.
ولأهمية الشهادة؛ نطق القرآن بفضلها، ورفع الله جل جلاله نسبتها إلى نفسه، وشرف
بها الملائكة ورسله وأفاضل خلقه:
فقال تعالى: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون
[النساء:166].
وقال تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً
[النساء:41]. فجعل كل نبى شهيداً على أمته.
ويكفي الشهادة شرفاً أن الله تعالى خفض الفاسق عن قبول الشهادة ؛ فقال تعالى: إن
جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [الحجرات:6].
عباد الله!
ومن كانت عنده لأخيه شهادة بحق؛ وجب أداؤها عند الحاجة إليها، قال الله تعالى: ولا
تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة:283]. أي: إذا دعيتم إلى
إقامتها؛ فلا تخفوها، بل أظهروها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: شهادة الزور من أكبر الكبائر ،وكتمانها كذلك، وقد
قال الله تعالى: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة:283].
وقد قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة؛ قال: فإنه آثم قلبه ،
أراد به مسخ القلب، وخص القلب لأنه موضع العلم والشهادة.
وقال تعالى: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين [المائدة:106]. فقد أضاف
الشهادة إلى الله؛ تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها؛ لأنها تفرز الحقوق، وتبين الحق من
الباطل.
عباد الله!
وبعض الناس يتهيب من أداء الشهادة، ويقول: لست ملزماً بالذهاب إلى القاضى مراراً
لإثباتها؛ خشية ما يناله من التعب الجسماني، لكنه لو فكر؛ فهو يفر من التعب الذي
يؤجر عليه إلى الإثم العظيم، وشتان ما بين الأمرين!
عباد الله!
ويجب على الإنسان أن يشهد بالحق، ولو على نفسه، أو أقرب الناس إليه، لا تأخذه فيه
لومة لائم، ولا يصرفه عن ذلك طمع أو خوف أو محاباة.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو
الوالدين والأقربين [النساء:135]. أي: أشهد بالحق ولو عاد ضرر ذلك عليك، وإذا سئلت
عن الأمر؛ فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك؛ فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً
ومخرجاً وإن كانت الشهادة على والديك أو قرابتك، ولا تأخذك العاطفة مع غني لغناه
أو فقير لفقره في أمر الشهادة؛ فالله أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما؛ فالله
أرحم بعباده منك؛ فقد تظن أن في الشهادة عليهم مضرة، وفي الحقيقة أن الشهادة عليهم
فيها رحمة بهم ومصلحة لهم في تخليصهم من المظالم وتطهيرهم من المآثم.
عباد الله!
ومما ينبغي أن يحذر منه في جانب الشهادة شهادة الزور، وهي الحالقة، التي تحلق
الدين:
فقد قام رسول الله ، فقال: ((يا أيها الناس! عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله (ثلاث
مرات) ))، ثم قرأ: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (2) [الحج:30].
وفى "الصحيحين" عن أبي بكر؛ أن رسول الله قال: ((ألا أنبئكم بكبر
الكبائر؟". قلنا: بلى يا رسول الله! قال: "الإشراك بالله، وعقوق
الوالدين". وكان متكئاً، فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، ألا وشهادة
الزور" فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت))(3)!.
عباد الله!
وشهادة الزور هى الشهادة الكاذبة التى ليس لها أساس من الصحة؛ بأن يشهد الإنسان
بما ليس له به علم: إما بدافع المحبة لمناصرة المشهود له بالباطل، وإما بدافع
الطمع بما يعطيه المشهود له من مكافأة مالية أو غيرها؛ دون تفكير في العاقبة
الوخيمة، ودون خوف من الله.
فشاهد الزور قد ارتكب أموراً خطيرة:
منها الكذب والافتراء، وقد قال تعالى: إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات
الله أولئك هم الكاذبون [النحل:105]. وقال تعالى: إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب
[غافر:28].
ومن المحاذير التى ارتكبها شاهد الزور: أنه ظلم الذي شهد عليه، فاستبيح لشهادته
عليه ماله أو دمه أو عرضه.
ومن المخاطر أيضاً التى ارتكبها شاهد الزور: أنه ظلم المشهود له؛ حيث ساق إليه
بموجب شهادته حق غيره ظلماً وعدواناً، فباع دينه لدنيا غيره، وشر الناس من باع
آخرته بدنياه، ولكن شراً منه من باع آخرته بدنيا غيره، وشر الناس من ظلم الناس
للناس.
ومن المخاطر التى وقع فيها شاهد الزور؛ أنه استباح ما حرم الله من الكذب وأموال
الناس ودمائهم وأعراضهم، فاستباح محرمات كثيرة.
إن شاهد الزور قد تأخذ منه النشوة مأخذها إذا رأى شهادته قد جلبت له مصلحة، لكنه
غفل أو تغافل عن عاقبة جرمه، فلا خير في لذة من بعدها النار.
فيا من يشهد زوراً لقد ظلمت نفسك، وظلمت الناس، وبعت آخرتك بدنياك، بل بدنيا غيرك،
فأنت بهذا من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فقد تقلب شهادتك الباطل حقاً،
وغررت بالحكام، وأفسدت الأحكام، وساعدت أهل الإجرام، كم خربت شهادة الزور من بيوت
عامرة، وضيعت حقوقاً واضحة! كم فرقت بين المرء وزوجه، ومنعت صاحب حق حقه!
فاتقوا الله عباد الله في الشهادة وفيمن تشهدون عليه وفيمن تشهدون له، وتثبتوا
فيما تنطقون به.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه
هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه
وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط.
عباد الله!
إن الشهادة أمرها عظيم، لكن الناظر في أوضاع بعض المسلمين اليوم يجد تساهلاً في
أمر الشهادة، فالبعض يشهد بما لم ير ولم يعلم، وإنما وثق بمن أخبره، أي: بمجرد
العاطفة فقط، ومنهم من يتساهل في الشهادة في أمر التزكية دون علم منهم بحالة
المزكى وسلوكه ودون اعتبار لما يترتب على هذه التزكية من مخاطر؛ فقد يستغل ذلك
المزكى هذه التزكية للتغرير بالمسلمين أو أخذ ما لا يستحق، ومما حصل فيه التساهل
من الشهادة الشاهدة بأنه فقير؛ دون علم بحاله، وتثبت في أمره، فيؤدى ذلك إلى أخذه
ما لا يستحق.
عباد الله!
ونتيجة لتساهل بعض الناس في أمر الشهادة؛ فإن من يريد شهادة على أمر ما ؛ يطلبها
من أي شخص، بل ولو لم يكن يعرفه، وإذا رفض بحجة عدم معرفته به ولا بأمره؛ غضب،
وانتفخت أوداجه.
وترى ذلك جليا حينما تكون مراجعاً لإحدى الدوائر والمؤسسات؛ كالأحوال المدنية
مثلاُ، ترى من يطلب منك شهادة، ولو لم تعرفه، ولم تعرف حقيقة أمره، بل أصبح هم
الكثيرين ليس الشاهد، بل من يحمل إثبات شخصية، وكأنه قد ضمن الشهادة.
فيا سبحان الله! كيف يشهد المسلم على ما لا علم له به؟!
وقد يقول البعض: إن هذا أمر بسيط!! فأقول : لكن أمر الشهادة عظيم.
عباد الله!
ولا يجوز للإنسان أن يتحمل شهادة على جور أو محرم، ولو كان يعلم المشهود عليه ؛
فلابد أن تكون الشهادة في أمر مشروع:
قال تعال: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط [النساء:135]. أي: كونوا
قوامين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الرياء والسمعة، واشهدوا بالعدل لا بالجور.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ أنه قال: نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة
بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه ليشهده،
فقال: ((أكل ولدك نحلته مثله؟)). قال: لا. فقال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين
أولادكم))، وقال: ((إني لا أشهد على جور)) قال: فرجع أي، فرد صدقته(4).
وهذا دليل على أن الإنسان لا يجوز له أن يشهد على جور؛ لأن شهادته ستكون وسيلة
لثبوته، فيكون معيناً على الجور، وكذلك المحرم - كالربا - لا تجوز الشهادة عليه،
ومن شهد؛ فقد باء باللعنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله
وكاتبه وشاهديه.
__________
(1) 1 رواه البيهقى بسند صحيح .
(2) 2 رواه الترمذى .
(3) 3 رواه البخارى ومسلم .
(4) 4 رواه البخاري ومسلم.
(1/6)